فان كوخ.. حياة داكنة في غرفة

لم يكن للفنان الشهير فانسنت وليام فان كوخ بيتا أو مأوى سوى ذلك الفندق البسيط المتواضع رافو في بلدة أوفير الفرنسية الذي سكن فيه طيلة حياته تقريبا، فكان يرسم ويأكل ويعيش فيه وسط العمال الفقراء والرسامين المبتدئين.
[IMG]http://www.albayan.ae/servlet/Satellite?blobcol=urllowres&blobheader=image%2Fjpe g&blobkey=id&blobtable=CImage&blobwhere=1265975608 329&cachecontrol=0%2C4%2C12%2C16%2C20%3A00%3A00+*% 2F*%2F*&ssbinary=true[/IMG]
ولم يكن يعلم بأن لوحاته التي لم تكن تباع في ذلك الوقت، ستساوي ملايين الدولارات بعد وفاته، وهكذا تحول هذا الفندق البسيط المتواضع بفضل عبقريته إلى مزار يحج إليه مئات الآلاف من عشاق الرسم سنويا. وصل فان كوخ إلى منطقة أونفير سير لواز شأنه شأن العديد من الفنانين الذين قدموا إلى هذه المنطقة من أجل الإقامة فيها، من أمثال دودينيي وكوروت وبيسارو وسيزار واستقر في غرفة بفندق صغير: «لقد أوصوا لي بغرفة في فندق مقابل 6 فرنكات ؟ ما يعادل يورو واحد آنذاك ؟ لليلة لكنني نجحت في تحصيل غرفة في فندق بسيط آخر يدعى رافو مقابل نصف هذا المبلغ». هكذا كان الفقر المدقع يدفع به إلى البحث عن مكان رخيص ليمضي فيه أيامه ويرسم لوحاته. استقر الفنان المتسكع في ذلك الفندق البسيط وكان يظن انه سيمكث فيه لفترة وجيزة وبشكل مؤقت.
وكان حريصا على القليل من الأموال التي كانت بحوزته. وحين وصلت أدوات رسمه وبعض حاجياته الشخصية فيما بعد من منطقة آرل، أخذ فان غوخ يبحث عن مرسم صغير وسط البلدة لكن سرعان ما عدل عن الفكرة لأنه اعتاد على غرفته في الفندق ولم يستطع الرحيل عنها، كتب سنة 1890 يقول:«لا زلت أحب الحياة والفن».
وبعدها بأقل من شهرين كان الرسام يعيش آخر لحظات حياته في الفندق نفسه بل في الغرفة نفسها. كان من المفترض أن تكون تلك الإقامة مؤقتة إلا أنه وقع طريح الفراش ما أدى إلى استمرار بقائه في هذا المكان تحت رعاية أحد الأطباء الذي جاء يزوره بين الحين والآخر.
في الفترة ما بين الحربين العالميتين كانت ذكرى فان غوخ الشهير تستقطب العديد من الزوار والمحبين لفنه ولذكراه وأصبح حينها فندق رافو- الذي تحول لمقهى فان غوخ«، يأتون إليه خصيصا لزيارة هذا المكان الذي أقام فيه الرسام العظيم. في سنة 1952 بيع الفندق لعائلة تاغليانا الذين قاموا بتحسين وضع الفندق وجعله أكثر ضيافة.
وبفضل أدلين رافو التي كانت تزوره دون انقطاع في الفندق تم ترميم غرفة فان غوخ حتى أن المخرج السينمائي العالمي رفانسونت مينيلي صّور فيه فيلمه الشهير عن حياة الرسام والتي قام بدوره الفنان كيرك دوغلاس.
في الثمانينيات من القرن الماضي؛ أرادت الأرملة تاغلياني أن تبيع الفندق، وفيما بعد سرعان ما أدركت ابنتها ريجين، أن للمكان ذكرى وأهمية تاريخية يجب الحفاظ عليه.
وفي سنة 1985 صنف الفندق مبنى تاريخيا لا يمكن المساس به. وحين تعرض دومنيك شارل جونسون، المكلف بترميم الفندق إلى حادث سير بمقربة من الفندق واستقر في المنطقة، اكتشف المكان وفي فترة نقاهته تسنت له قراءة رسائل فان غوخ ، فقرر أن يهتم أكثر بآخر مقر للرسام العالمي فان غوخ .
بعد مرور 7 سنوات من العمل المتواصل والذي تخللته متاعب إدارية كثيرة ؛ افتتحت أبواب فندق رافو في خريف 1993 و ما زال الزوار يرتادونه باستمرار وبدون انقطاع ليكتشفوا باحترام و حب شديدين آخر غرفة أقام فيها فان غوخ.
من رجل دين إلى رسام
ولد فان غوخ في كروت زاندير بهولندا من أب يدعى تيودوريس فان غوخ وكان الأب رجل دين بروتستانتي في قرية صغيرة، ينتمي لأسرة تتكون من 6 أطفال من بينهم تيو الأخ الذي يصغره بأربع سنوات والذي رافقه طوال حياته وساعده كثيرا. من سنة 1864 إلى غاية سنة 1868 تابع فان غوخ دراسته وقرأ الكثير من الكتب. كان شديد العزلة ويحب أن يختلي بنفسه.
وكان يبتعد كثيرا عن أفراد عائلته لكن في الوقت نفسه كان يقترب من أخيه الصغير تيو الذي كان يحب الحديث والتنزه معه. في سن الـ 16 سنة، لم يكن فان غوخ يملك مهنة معينة واقترح عليه خاله أن يرافقه في عمله حيث يبيع اللوحات، فاقترح عليه أن يعمل معه بمكتبة قديمة في لاهاي والتي كانت عبارة عن ملحق لدار كوبيل الباريسية (1869-1876 ).
وخلال ثلاث سنوات كان يعمل فان غوخ بجدية ويتقن عمله. وفي سنة 1873 تم إرساله للعمل في ملحق آخر لهذه المكتبة في لندن حيث كانت بمثابة ترقية بالنسبة للشاب المثابر. هناك استقر عند عائلة وسرعان ما أحب واحدة من أفرادها التي كانت تدعى اورسولا وعندما فضح أمره تم طرده من البيت وكانت تلك إهانة كبيرة بالنسبة له وشعر بعدها طويلا بأسى شديد.
في سنة 1876 استقال فان غوخ من عمله وكان أمله أن يصبح رجل دين مثل أبيه. من سنة 1877 إلى غاية 1879 انكب على دراسة علوم الدين واللغة اللاتينية والإغريقية؛ بعدها تراجع عن هذه الدراسات ليصبح مبشرا بالإنجيل في بلدة بوريناج. وأصبح حساسا جدا لحياة البؤس التي يعيشها عمال المناجم فكرس كل طاقته و جهده لقضيتهم وكان يهب لهم كل ما لديه ليعيش هو في العوز.
لكن رؤساؤه رأوا في هذا الموقف كثيرا من المبالغة وقرروا أن لا يجددوا له عقده عندما انتهت فترة عمله. إضافة إلى أنهم رأوا أن فان غوخ يجد صعوبة بالغة في التحدث أمام الناس وإقناعهم. لم يجدد العقد فاضطر إلى تغيير توجهه في العمل الديني. كان في الـ 27 من عمره وكان يحب الرسم فقرر أن يصبح رساما.
كان منذ سنوات عديدة وبحكم عمله بعيدا عن أخيه تييو الذي يحبه والذي على غراره، أصبح يعمل في بيع اللوحات، المهنة التي احترفها طيلة حياته. كان فان غوخ وأخوه يتبادلان الرسائل بانتظام.
وبدأ بدراسة الرسم في أكاديمية بروكسل إلا أنه تعرض في سنة 1881 إلى خيبة أمل عاطفية ثانية وكان يحب إحدى بنات عمه فكرس على إثر صدمته كل طاقته للعمل والرسم. منذ بداية 1886 أصبح فان غوخ يوقع لوحاته باسم فانسان.
في ذلك الوقت كان شقيقه تييو الذي كان يدرس في جامعة انفير أيضاً، يساعده ماديا لأن معارضه الفنية لم تحقق أي نجاح وكان يستقر في بيت أخيه في باريس إلا أن طباع فانسان كانت تخلق بعض المشاكل بين الأخوين فكان التوتر شديداً بينهما، لذلك فضل الأخوين أن يبتعدا قليلا، فيما فضل فانسان العيش في بلاد مشمسة وقرر الرحيل عن باريس.
في سنة1888 وصل إلى منطقة آرل المشمسة حيث كانت الطبيعة ملهمته الأولى، فقام برسم البساتين والورود والزهور وعباد الشمس التي كانت تبهره كثيرا وكان يرسل لوحاته لأخيه الذي سعى إلى بيعها بدون نجاح .
كان تييو يرسل له براتب شهري يبلغ 150 فرنكا «25 يورو»، فاستأجر بيتا صغيرا ودعا إليه رسامون آخرين من رفاقه وأصدقائه محاولا إقناعهم بإنشاء مرسم مشترك لم يرى النور أبداً.
في أروقة فندق رافو
كانت أمنية فان غوخ هي ترميم الفندق وكان قد أدلى بهذه الأمنية لأخيه في رسالة مكتوبة في 10 من يونيو سنة 1890 قبل أن يموت قائلا : «في يوم من الأيام، سأقوم بعرض أعمالي في هذا المقهى» .
وبالفعل كان عمل الترميم ناجحا بحيث استرجع المطعم شكله بديكوراته وألوان جدرانه وأثاثه القديم وطاولاته القديمة ورفوفه مثل ما كانت عليه ديكورات القرن العشرين.
كان الفندق يقدم كل يوم الأكل البسيط الذي يفضله فان غوخ «وكان الطبيب غاشي ـ الذي عالجه ـ يحاول جاهدا أن يصف لنا وجبات تتضمن أربع أو خمس أطبا ق للرسام» حتى التصق وإلى الأبد اسم الفندق بالأطباق التي يقدمها والتي كان يطلبها فان غوخ.
الغرفة التي شهدت موته
في ما يخص الغرفة التي لفظ فان غوخ آخر أنفاسه فلقد ظلت كما كانت عليه يحيط بها فراغ مخيف: ليس هناك أي أثاث باستثناء كرسي ؛ نافدة صغيرة وخزانة.
وبجانب الغرفة توجد غرفة الرسام الهولندي الشاب اونتون هيرشيغ جار فانسنيت والذي رافقه حين كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. هذه الغرفة بالمقارنة فقد ثم ترميمها مع أثاثها الأصلي .
حيث يظهر جليا طراز الديكور في نهاية القرن العشرين. هناك على جدار من جدران ذلك البيت رسم فان غوخ «الرجل صاحب الغليون» والذي خلد فيها صورة الدكتور المنعزل والوفي. لقد اختار الرسام الكبير فان غوخ ذلك الفندق كملاذ له، ليس لجماله بل فقط لأجره العادي و المقبول.
وكان يتردد عليه الفنانون المبتدئون والعمال وأصحاب المهن البسيطة، فكان فان غوخ يعيش بينهم، وهو يجهل تماما أنه بعد عشرات ومئات بل و آلاف السنين سيأتي زوار يجهلهم تماما من جميع أنحاء العالم كي يشاركوه تلك الخطوات التي قام بها إلى هذا الفندق المتواضع ويتناولون الوجبات التي كان يتناولها بل ويرهفون السمع إلى صرخة موته التي خلدت بين جدران غرفته علّهم يتنفسون شيئا من روح ذلك الفنان الذي بصم العالم باسمه وإلى الأبد.
بيته الثاني
ارتبط فان غوغ بصداقة عميقة بطبيبه الدكتور غوشي الذي كان أرملا حين تعرف عليه وكان لديه ولد وبنت: بول ومارغريت، ويسكن في شارع يدعى الآن شارع «الدكتور غاشي» وهو عبارة عن بيت من حجر معزول في أعالي القرية تؤدي إليه سلالم ضيقة.
هذا البيت كان مهما بالنسبة للرسام حيث كان يرتاده كثيرا بين الفينة والأخرى وكان بمثابة بيته الثاني يشعر فيه بالحرية والاستقرار حتى انه كان يرسم لوحاته فيه.
شاكر نوري