حين بلغت القلوب الحناجر في الخندق، واشتد الكرب حتى خُيّل للناس أن النهاية قد دنت، بزغت الحقيقة الكبرى في مشهد عظيم من التمايز بين الصفوف. فأول ما تجلى من آيات هذا البلاء، كشف الغطاء عن وجوه المنافقين، الذين ظنوا أن الإسلام إلى زوال، وأن ساعة الحسم قد أقبلت، فبدت سرائرهم على ألسنتهم:
{وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا (12) وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ}
لكن القصة لم تُختم بعد، بل كانت تلك اللحظة بداية انكشاف جوهر الإيمان وصفاء العقيدة، حيث تجلّت العظمة في قلوب رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فلم تُرهبهم الأحزاب، ولم تزلزلهم الأهوال، بل زادهم البلاء إيماناً وثباتاً:
{وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا (22) مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا (23)}
ولأن الله لا يُضيع صدق الصادقين ولا يُمهل نفاق المنافقين بلا حساب، جاءت النتيجة فاصلة، عادلة، ومبهرة:
{لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا (24) وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا (25)}
ولم تتوقف عطايا الله عند ردّ الكافرين، بل جاءت لحظة النصر الإلهي حين قُذف الرعب في قلوب من ظاهر الأحزاب من أهل الكتاب:
{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا (26) وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا (27)}
مشهد الخندق لم يكن مجرد غزوة عسكرية، بل لحظة مفصلية في غربلة الصفوف، وتمييز الصادق من المنافق، وتأكيد أن النصر لا يُولد إلا من رحم الشدة، وأن الثبات على العهد هو الطريق إلى تمكين الحق واندحار الباطل.
#أدهم_أبوسلمية