|
|
|
|||||||
| منتدى نصرة فلسطين والقدس وقضايا أمتنا العربية منتدى مخصص لطرح المواضيع المتنوعة عن كل ما يتعلق بالقدس الشريف والقضية الفلسطينية وقضايا الأمة العربية . |
![]() |
| مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان) |
|
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
رقم المشاركة : 1 | |||||
|
9 أكتوبر 2025 ثقب "سديه تيمان" الأسود محمد قاعود ما إن أطلّ نور الحرية من فتحةٍ ضيقةٍ في شباك الحافلة التي أقلّتني من سجن النقب، حتى شعرت أنني أتنفس للمرة الأولى، كان قلبي يسبقني في القفز نحو الحياة، وبصري يتفحّص الوجوه كأنّي أبحث عن شيءٍ فُقد مني منذ زمن. وأخيراً، وصلت بنا الحافلة إلى المستشفى الأوروبي في مدينة خانيونس، حيث كان إخوتي في انتظاري. صرخت منادياً حين رأيتهم، ورفعت رأسي من شقٍّ بالكاد يسع الأمل، ناديتهم بأعلى صوتي، صوت الفرح الذي لم أعرفه من قبل. وما إن التقت أعيننا، سألتهم سريعاً: "كيف أبوي؟". سكنني هذا السؤال منذ أول ليلة في الأسر، كان يتردد في قلبي مع كل غروب، مع كل وجع بارد، مع كل استيقاظ على صراخٍ أو تفتيش. كنت أراه في المنام، وأحادثه في دعائي، وأتخيله واقفاً في استقبالي يوم حريتي. سريعاً صفعني جوابهم، وصعق قلبي: "مات قبل خمسين يوماً". مات أبي وهو ينتظرني، مات وقلبي في قيده، مات دون أن يسمع مني كلمة "يابا أنا حرّ"، دون أن يراني خارج القضبان. قالوا لي: "مات وهو مشتاق لك"، لكنها لم تكن كلمات عزاء، بل كانت خنجراً جديداً في خاصرة الحلم، خرجت من السجن لكنني لم أتحرر، عدتُ إلى حياةٍ ناقصة، إلى مقعدٍ فارغ، وصوتٍ غائب، وحنين لا يجد صاحبه. رحل والدي بعد أن صمد في وجه السرطان لسنوات، لكنه لم يصمد أمام شهرٍ آخر من الحرب، رحل لأن الاحتلال لا يقتلنا بالسلاح وحده، بل بالصمت، والإهمال، والحصار، ومنعنا من الدواء. أحلام مؤجلة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر2023، تغيّر كل شيء، صار السجن أضيق، أشد عتمةً من ذي قبل. أوقف الاحتلال زيارات الأهالي، وأغلق كل نافذة يمكن أن تتسرب منها الحياة. انقطعت الاتصالات، وتحوّل الخارج إلى غيبٍ كامل، وإلى قلق لا يُحتمل. كنا ننام على تخمين، ونصحو على احتمال، نعيش مع هواجسنا من دون سند، ولا خبر، ولا حتى كذبة مطمئنة. رفيقي في الزنزانة، كان قلبه معلقاً بأمه المريضة بالفشل الكلوي، كل ليلة كان يراها في خياله تسقط، وتختنق، وتبحث عن دواءٍ مفقود. كان يعرف أن مستشفيات غزة تتهاوى تحت القصف، ويعلم أنها تحتاج إلى ثلاث جلسات لغسل الكلى أسبوعياً. ومع ذلك، كان يتمسك بالأمل. كان قد خطط أنه في يوم تحرره سيأخذها للعلاج في الخارج، أن يعوّضها عن سنوات الخوف والصبر، لكنه حين يخرج لن يجد في انتظاره بالخارج سوى قبر أمه إن كان ما زال لها قبر في ظل عاصفة الدمار التي أكلت كل شيء في غزة. آخر، كان يحلم بزفاف نجله البكر خميس، حدثنا طويلاً أياماً وليالي عن مكان العرس الذي سيقيمه لنجله البكر ولفرحته الأولى، كان دائماً يمازحنا أنه سينظم له مهرجانا أكبر من مهرجانات انطلاقة الفصائل في غزة. كان يرى نجله أكبر من كل شيء، كان وطنا في هذا الضياع، حدثنا طويلاً عن مأدبة الفرح، عن العجول التي سينحرها وأمهر طباخي غزة الذين سينالون شرف إعداد هذه المأدبة، عن الأغاني، وعن الرقص، كأنه يحاول الهرب من قسوة الزنزانة إلى فرحة مؤجلة. لم يكن يعلم أن قناصاً إسرائيلياً اختطف خميس ابن صاحبنا وعريسنا المنتظر من بين الحياة والمستقبل، حين حاول فقط أن يحمل كيس طحين ليطعم إخوانه الجوعى من شاحنة تحمل الموت أكثر مما تحمل المساعدات. وصديق ثالث، كان يحلم برحلة أخيرة مع أسرته، أراد أن يرى مع زوجته وأطفاله الثلاثة مشهداً لا يحتوي رماداً أو ركاماً، كان يتخيل هضاب تركيا الخلابة ثم مكة معتمراً إلى بيت الله الحرام، ثم المرور بقبر النبي (صلى الله عليه وسلم). أراد أن يسكب على أرواحهم من جمال الأرض ونقاء السماء. لكنه لم يعلم أن صاروخاً بوزن طن، جعلهم أثراً بعد عين. لم تبقَ لهم صور، ولا حتى أجساد تودّع. فقط جدران الجيران تشهد أن أشلاءهم مرّت من هنا، وهو ما زال يخطط كيف يمسح مآسي الحرب والبعد بأنس لم يعد موجوداً. كل يوم يمر على الأسرى ينخر خواطرهم بسؤال مؤلم عالق بلا إجابة: هل بقي لي أحد؟ هل ما زال بيتي قائماً؟ هل أطفالي ما زالوا يضحكون؟ ولا صوت يرد، صمت كثيف فحسب، أقسى من القيود في معصم اليدين. إنتَ عايش؟ في إحدى ليالي الأسر الثقيلة، اقتيد إلى زنزانتنا أسير جديد لم يمضِ على أسره سوى أيام معدودة، لسوء الحظ، كان هذا الوافد جاراً لأحد رفاقنا في الزنزانة فبادره بالسؤال عن أهله، عن بيته، عن ذاك الركن البعيد من الحياة التي كانت، فأتاه الجواب صادماً: "قُصِف المنزل الذي نزحتم إليه، واستشهدت العائلة بأكملها". لم يحتمل وقع الخبر، فخرّ مغشياً عليه، ولم يكن إغماءً عابراً ليوم أو يومين، بل انزلق في غيبوبة نفسية امتدت لأشهر، يهذي خلالها بأسماء أبنائه وإخوته، يتمسّك بأصواتهم في ذاكرته، كأنها طوق نجاة من غرقه في الصدمة، حاولنا مراراً تصبيره، تكذيب الخبر، التخفيف من جرحه بأي وسيلة، لكن لا حيلة تنفع مع الألم حين يكون بهذه القسوة. وفي مرة أخرى، كنا على بُعد أيام فقط من حريتنا الموعودة، حين جاءنا أسير جديد يحمل هو الآخر فصلاً جديداً من مأساة الأسر، ما إن وقعت عيناه على أحد رفاقنا حتى تجمّد في مكانه، فغر فاه في ذهول، وتمتم بصوت مرتجف: "إنت عايش!"، فقد كان يظنه شهيداً منذ شهور، وقد نُصِب له بيت عزاء في المخيم، وذُرفت عليه دموع الفقد، لم يُصدّق ما يرى، ولا استطاع استيعاب أن من أمامه ليس طيفاً، بل هو لحم ودم. في لحظة، تحوّل اللقاء من رجفة إلى زلزلة في الوجدان، عقله لم يحتمل الصدمة، فقد تسرّبت إليه هواجس مرعبة: ماذا لو تزوجت زوجته ظناً بموته؟ ماذا لو كُتب له أن يعود، ليجد الحياة قد مضت من دونه؟ لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى بدأ يفقد تماسكه، يغرق في هذيانات مؤلمة، يهمس بكلمات لا تُفهَم، يتنقّل ببصره كمن تاه بين الحقيقة والوهم، ببساطة فقد عقله، تحطّمت روحه على عتبة الحريّة، قبل أن تفتح الأبواب له بأيام قليلة فقط. انتظار معلّق بين الشك واليقين في كثير من المرات، كان ضباط الشاباك يتعمّدون تمزيق أرواحنا لا أجسادنا، فينهالون علينا بأخبار مفزعة مفادها أن عائلاتنا استشهدت بالكامل، أو أن بعض أفرادها قضوا في القصف، كانوا يزرعون في قلوبنا بذرة شكّ قاتلة، تجعل عقلك يدور في دوامة لا تنتهي: "هل فقدتهم حقاً؟ هل أنا الآن وحيد بلا أهل، بلا وطن، بلا أحد ينتظرني؟". هكذا كانوا يتركوننا نغرق في وهم الفقد، وهمٌ يتغلغل في الروح فيأكلها من الداخل، يسرق النوم من أعيننا، ويحوّل الانتظار إلى عذاب لا يُطاق. لا شيء يمزّق قلب الأسير كأن يُترك معلّقاً بين الحياة والموت، يعيش في ظنّ الفقد، من دون يقينٍ يطمئنه أو نفيٍ يواسيه. أن تمضي الأيام وهو يسأل نفسه بصمت: هل ما زالوا هناك؟ هل ضحكة أطفالي ما زالت تطوف أرجاء البيت؟ هل بقي للبيت باب يُطرق، أو جدار لم ينهشه القصف؟ ذاك ليس غياباً بالمعنى العابر، بل انهيار داخلي متواصل، يتسلّل إلى روحه كنزيف لا يُرى. في زنزانته، لا ينتظر الأسير ساعة الحرية فقط، بل ينتظر إشارة حياة، صورة، حرفاً، حتى كذبة بيضاء تريحه من عذاب الاحتمال. هذه ليست مجرّد خسارات، بل هي شروخ في القلب لا تُرمّم، وجعٌ ينحت في الذاكرة كما تُنقش الأسماء على شواهد القبور. هو ألم لا يُقال، لأن الكلمات تخونه كلما حاولت أن تنطق به، وتضيق اللغة عن حمل ما يعتصر صدره. حتى الورق، لا يحتمل هذا الثقل حين تتحوّل الحروف إلى بكاءٍ مكتوم، وصرخة لا يسمعها أحد. الحرية لا تبدو نهاية الحكاية، بل بدايتها المؤلمة، فالأسير الذي يعود إلى وطنٍ بلا ملامح، وبيتٍ بلا أهل، وسماءٍ بلا صوت، لا يُشبه الناجين، بل يُشبه الناجين من تحت الركام، يرممون أنفاسهم فوق أنقاض الذاكرة، يبحثون عن بقايا حلمٍ سحقته الأيام والليالي. في غزة، لا ينتهي الأسر بالتحرر، بل تبدأ رحلة أخرى من الفقد، من إعادة تعريف معنى الحياة، حين يصير كل ما كنت تنتظره قد مضى، وهكذا يمضي أسرى غزة، أحياء على هامش الحياة، يلبسون قيداً خفياً اسمه الخسارة، ويصمتون.. لأن ما فقدوه أكبر من أن يُقال. ..
|
|||||
|
![]() |
|
|